فصل: المبحث الثاني: نزول القرآن الكريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.ترجمة القرآن الكريم:

وجدت مسألة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وتناولها العلماء والأدباء بالجواز والمنع، فألف المغفور له الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر سابقا رسالة بعنوان: بحث في ترجمة القرآن الكريم وأحكامها، ذهب فيها على جواز الترجمة، وألف المرحوم الأستاذ محمد فريد وجدي رسالة بعنوان: الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وقد أيد فيها الترجمة ورد على المخالفين.
وقد انبرى للرد على المجوزين للترجمة العلامة الشيخ مصطفى صبري رحمه الله شيخ الإسلام بتركيا سابقا في كتاب دقيق سماه: مسألة ترجمة القرآن، كما عارض الترجمة المرحوم الأستاذ الشيخ محمد سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا سابقا وسمى كتابه: حدث الأحداث في الإسلام، الإقدام على ترجمة القرآن، وألف الأديب الصحفي محمد الههياوي رحمه الله رسالة بعنوان: ترجمة القرآن الكريم غرض في السياسة وفتنة في الدين.
وقد ألف- ولا يزال يؤلف- في بعض أنواع علوم القرآن كثير من الأحياء من أفاضل العلماء والأدباء.
وقد كان لي شرف أن أدلي بدلوي في هذه الدلاء، وأن أشارك في التأليف في هذا المضمار الشريف الفسيح، مضمار الدراسات الأصيلة في كتاب الله العزيز فكان هذا الكتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم، وفي النية إن شاء الله متابعة البحث والتنقيب عن كنوز القرآن الكريم وعلومه، حتى أخرج ما تيسر من مباحث هذا العلم المنيف في بضعة أجزاء، والله الموفق والمعين وقد استفدت مما كتبه المؤلفون في القديم والحديث في علوم القرآن، وأمكنني أن آتي بجديد لم يسبقني أحد إليه، وبتحقيق لبعض مسائله لم يحم أحد عليه، وبتهذيب، وبترتيب لبعض مباحثه، وكل ذلك بفضل الله وتوفيقه.
ولبعض الزملاء، والأقران وبعض التلاميذ والأبناء في مصر، وغير مصر، وفي الأزهر وغير الأزهر كتب قيمة، ورسائل جيدة، في الدراسات القرآنية أو إن شئت فقل في علوم القرآن فجازاهم الله خيرا على صنيعهم هذا، وإنه لمضمار شريف، وفيه فليتنافس المتنافسون.
وسيظل هذا الكتاب الكريم منهلا عذبا، وموردا صافيا، ومادة خصبة للباحثين والمفكرين، يدورون في فلكه الدوّار، ويستظلون بظله الظليل، ويستهدون بهديه القويم، ويسيرون على ضوئه ومنارته.
وسيستمر مصدر حركة فكرية وباعث حياة شعوب، ومجدد شباب أمة، وحارس لغة هي أشرف اللغات، وأعذبها، ومشغلة للفكر الإنساني حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

.المبحث الثاني: نزول القرآن الكريم:

هذا المبحث من المباحث المهمة؛ إذ به يعرف تنزلات القرآن الكريم ومتى نزل وكيف نزل وعلى من نزل وكيف كان يتلقاه جبريل عليه السلام من الله تبارك وتعالى وعلى أي حال كان يتلقّاه الرسول صلوات الله وسلامه عليه من جبريل ولا شك أن العلم بذلك يتوقف عليه كمال الإيمان بأن القرآن من عند الله وأنه المعجزة العظمى للنبي، كما أن كثيرا من المباحث التي تذكر في هذا الفن يتوقف على العلم بنزوله، فهو كالأصل بالنسبة لغيره، والعلم بالأصل مقدم على العلم بالفرع، فأقول- ومن الله أستمد العون والتوفيق:

.معنى النزول:

النزول لغة يطلق ويراد: الحلول يقال نزل فلان بالمدينة: حلّ بها، وبالقوم: حلّ بينهم، والمتعدي منه معناه: الإحلال، يقال: أنزلته بين القوم، أي أحللته بينهم، ومنه قوله تعالى: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [سورة المؤمنون: 29].
ويطلق أيضا: على تحرك الشيء من علوّ إلى سفل، يقال: نزل فلان من الجبل، والمتعدي منه معناه: التحريك من علو إلى سفل، ومنه قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً...} الآية [سورة الرعد: 17].
وكلا المعنيين اللغويين لا يليقان بنزول القرآن على وجه الحقيقة، لاقتضائهما الجسمية والمكانية والانتقال، سواء أردنا بالقرآن: المعنى القديم القائم بذاته تعالى أو الكلمات الحكمية الأزلية، أو اللفظ العربي المبين؛ الذي هو صورة ومظهر للكلمات الحكمية القديمة؛ لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلّقها- وهو الكلمات الغيبية الأزلية- عن المواد مطلقا؛ لأن الألفاظ أعراض سيالة، تنتهي بمجرد النطق بها، ولا يتأتى منها نزول ولا إنزال.
وعلى هذا يكون المراد بالنزول المعنى المجازي: والمجاز في اللغة العربية باب واسع، فإن أردنا بالقرآن: الصفة القديمة أو متعلقها، فالمراد بالإنزال: الإعلام به بواسطة إثبات الألفاظ والحروف الدالة عليه، من قبيل: إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإن أردنا اللفظ العربي الدال على الصفة القديمة، فيكون المراد: نزول حامله به سواء أردنا بالنزول: نزوله إلى سماء الدنيا، أو على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الكلام من قبيل المجاز بالحذف، وهذا هو ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق لفظ النزول.
وللقرآن الكريم وجودات ثلاثة:
1- وجوده في اللوح المحفوظ.
2- وجوده في السماء الدنيا.
3- وجوده في الأرض بنزوله على النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يقترن لفظ النزول إلا بالوجود الثاني والثالث، أما الوجود الأول، فلم يرد لفظ النزول مقترنا به قط، وعلى هذا: فلا ينبغي أن نسميه نزولا أو تنزلا.

.أين كان القرآن قبل النزول:

يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [سورة البروج: 21- 22]، فقد دلت الآية على أن القرآن كان قبل نزوله ثابتا موجودا في اللوح المحفوظ وهذا اللوح المحفوظ هو الكتاب المكنون الذي ذكره الله تعالى في قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} [سورة الواقعة: 77- 80]، فالظاهر والذي عليه جمهور المفسرين: أن الكتاب المكنون: هو اللوح المحفوظ، ومعنى {محفوظ}: أي عن استراق الشياطين، ومحفوظ عن التغيير والتبديل، ومعنى {مكنون}: مصون محفوظ عن الباطل، والمعنيان متقاربان.
واللّوح المحفوظ: هو السجل العام الذي كتب الله فيه في الأزل كل ما كان وكل ما يكون. والواجب علينا: أن نؤمن به وأنه موجود ثابت، أما البحث فيما وراء ذلك، كالبحث في حقيقته وماهيته، وعلى أي حالة يكون وكيف دونت فيه الكائنات وبأي قلم كتب فلا يجب الإيمان علينا به، إذ لم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث صحيح، وكل ما ورد إنما هي آثار عن بعض الصحابة والتابعين لا تطمئن إليها النفس.
وحكمة وجود القرآن في اللوح المحفوظ: نرجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح المحفوظ نفسه وإقامته سجلا جامعا لكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين، فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه وإرادته، وواسع سلطانه وقدرته، ولا شك أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي، ويبعث الطمأنينة إلى نفسه، والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته، كما يحمل الناس على السكون والرضا بسلطان القدر والقضاء، ومن هنا تهون عليهم الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} [سورة الحديد: 22- 23].
وللإيمان باللوح والكتابة أثر صالح في استقامة المؤمن على الجهاد في الله وتفانيه في طاعة الله ومراضيه، وبعده عن مساخطه ومعاصيه، لاعتقاده أنها مسطورة عند الله في لوحه، مسجلة لديه في كتابه كما قال جل شأنه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [سورة القمر: 52- 53].

.نزول القرآن الكريم:

للقرآن الكريم نزولان:
الأول: نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
الثاني: نزوله من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل وتوضيح.. وإليك البيان:
النّزول الأول:
نزول القرآن الكريم من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا جملة واحدة، وهذا النزول أكان بعد نبوته صلى الله عليه وسلم أم كان قبل ذلك رأيان للعلماء، أرجحهما الأول، وهو الذي تدل عليه الآثار الآتية، وكان هذا النزول في رمضان ليلة القدر.
والدليل على هذا النزول ما يأتي:
1- قوله تعالى في مفتتح سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال في مفتتح سورة الدخان: {حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}، وقال في سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ} [البقرة: 185]، والإنزال أكثر ما يرد في لسان العرب فيما نزل جملة واحدة، بخلاف التنزيل فإنه يعبر به في جانب ما نزل مفرقا؛ فدلّت الآيات على أن القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر! أخذا من سورة القدر وهي الليلة المباركة، أخذا من آية الدخان، وهي ليلة من شهر رمضان أخذا من آية البقرة.
وأيضا فمن البدهيّ: أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سنين لا في ليلة واحدة، وأنه نزل في غير رمضان؛ كما نزل في رمضان: فدل هذا على أن النزول الذي نوّهت بشأنه الآيات غير النزول على النبي مفرقا في بضع وعشرين سنة، وأن المراد به: هو النزول جملة واحدة.
2- قد جاءت الآثار الصحيحة مبيّنة لهذا النزول وشاهدة عليه:
(أ) فمنها ما أخرجه النّسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس، أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33]، {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].
(ب) ومنها ما أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض.
(ج) وأخرج الحاكم وغيره، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من سماء الدّنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح.
(د) أخرج ابن مردويه والبيهقيّ- في كتاب الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: أوقع في قلبي الشكّ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهذا أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس: أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام.
ومعلوم: أن هذا لا يقوله ابن عباس بمحض الرأي، فهو محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه من النبيّ من الصحابة، ومثل هذا له حكم المرفوع؛ لأن القاعدة عند أئمة الحديث: أن قول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليّات فيما لا مجال للرأي فيه له حكم الرّفع، وبذلك ثبتت حجّية هذه الآثار.
وقد ذكر السيوطي في الإتقان عن القرطبي: أنه حكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، ودعوى الإجماع غير مسلّمة؛ فإن من العلماء من لا يقول به ويحمل الآيات التي ظاهرها ذلك على ابتداء الإنزال.
وهناك قول ثان: وهو أن القرآن نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، ينزل الله في كل ليلة منها ما يقدر إنزاله في كل السنة، ثم ينزل به جبريل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في جميع السنة، وبه قال مقاتل بن حيّان، نقله القرطبي في تفسيره عنه، وبقوله قال الحليمي والماوردي، قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر قول الحليمي: وهذا أورده ابن الأنباري من طرق ضعيفة ومنقطعة.
أقول: فلا يعوّل عليه، قال: وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد.
وهناك قول ثالث: هو أن المراد بالآيات السابقة ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة على النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال الشعبي، وكأنّ صاحب هذا القول ينفي النزول جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
وقد ذهب إلى هذا الرأي من المتأخرين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسير جزء {عمّ}، فقد نقل كلام الشعبيّ وقوّاه، وقال: إن ما جاء من الآثار الدّالة على نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، مما لا يصح الاعتماد عليه؛ لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كان اتباعا للظن.
وأعقّب على قول الإمام فأقول: إن مسألة نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليست من العقائد التي يتحتم تواتر الأخبار بها، والتي لابد فيها من العلم القطعي اليقيني، مثل وجود الله وصفاته، ونحو ذلك من العقائد، وإنما يكفي فيها الأخبار الصحيحة.. التي تفيد غلبة الظن ورجحان العلم، ثم إن من قال إن مثل هذه الحقيقة الغيبية لابد فيها من تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم! إن كثيرا من السمعيات يكتفى فيها بالأخبار الصحيحة التي تفيد رجحان العلم بما دلت عليه، وعلى هذا جرى العلماء سلفا وخلفا، ثم إن تأويل الآيات بأن المراد ابتداء الإنزال صرف للآيات عن ظواهرها، وقد بينت أن ظاهر الآيات يشهد للنزول جملة واحدة، والظواهر لا يعدل عنها إلا بصارف، وأنى هو وبعد.. فالقول الأول، هو الراجح والصحيح الذي تشهد له الآيات والآثار.
حكمة هذا النزول:
والحكمة في هذا النزول أمران:
(1) تفخيم شأن القرآن، وشأن من نزل عليه، وشأن من سينزل إليهم، بإعلام سكان السموات من الملائكة بأن هذا آخر الكتب المنزلة، على خاتم الرسل، لأشرف الأمم، وهي الأمة الإسلامية، وفي هذا تنويه بشأن المنزّل، والمنزّل عليه، والمنزّل إليهم.
(2) تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية؛ بأن جمع الله له النزولين: النزول جملة واحدة، والنزول مفرقا، وبذلك شارك الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد على سائر إخوانه من الأنبياء ذوي الكتب المنزلة، وأن الله جمع له من الخصائص ما لغيره وزاد عليها.
النزول الثاني:
قلنا فيما سبق إن القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، في ليلة القدر وهذا هو النزول الأول، وكان النازل به جبريل عليه السلام فألقاه على السفرة الكرام البررة، فقيدوه في صحفهم المكرمة، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَرَرَةٍ} [سورة عبس: 11- 16] هم الملائكة المختصون بذلك.
وقد بقي القرآن محفوظا في هذه الصحف المرفوعة المطهرة، بأيدي هؤلاء الملائكة الكرام البررة حتى أذن الله لهذا النور الإلهي أن يسطع في أرجاء الأرض، ولهدايته الربانية أن تتدارك الناس، وتخرجهم من ظلمات الشرك والجهالة والضلال، إلى نور الإيمان والهدى والعرفان، على يد مخلّص البشرية، ومنقذ الإنسانية سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، فأنزل عليه القرآن هاديا ومبشرا ونذيرا للخلق أجمعين، وليكون آيته الكبرى، ومعجزته الباقية على وجه الدهر، شاهدة له بالصدق وأنه يوحى إليه من ربه، وهذا هو النزول الثاني للقرآن.
وشواهد هذا النزول أكثر من أن تحصى، قال تعالى شأنه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 192- 195]، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل: 102]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [سورة الكهف: 1- 4]، وقال: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان: 1]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [سورة البقرة: 23].
والذي نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم هو أمين الوحي جبريل عليه السلام، وهو المقصود بالروح الأمين في آية الشعراء، وبروح القدس في سورة النحل، وهو الرسول الكريم ذو القوة المتين الأمين في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [سورة التكوير: 19- 22]، والقول كما ينسب لقائله الأول، ينسب لمبلّغه وحامله إلى المرسل إليه.
وهو شديد القوى ذو المرة، في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} [سورة النجم: 4- 7]، وقد جاء النص على أن النازل بالقرآن هو جبريل في قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ} [سورة البقرة: 97- 98]، والمراد بهم اليهود.